إنها ليلة سبت، بينما يعرض كيفن كومالا، وهو مخترع إندونيسي عمره 32 عاماً، لفعالية مادة صالحة للأكل وقابلة للتحلل في مياه البحر، ابتكرها لتكون بديلاً للبلاستيك. توصل إلى ابتكاره من خلال إذابة أحد أكياسه، المصنوعة من نشا الكسافا، وليس الزيت، في كوب من الماء ثم شربه. وكان الجمهور من حوله يراقب كل ذلك في ذهول. كانت الفقرة التالية محاضرة تتحدث عن إمكانية استخدام تقنية إسقاط الخرائط في مراقبة عملية التمثيل الضوئي لدى النباتات. وقبل الاستراحة، شاهدنا عرضاً استعراضياً لتقنية تتيح للصم الرقص، وهو العرض الذي أثار حماس الحضور الذين تجاوز عددهم الخمسمائة شخص.
على أن نخيل جوز الهند الباسقة، كانت تهيمن على المشهد من فوقنا بينما تحوم طيور صائد السمك الزرقاء في سماء الليل الصافية. يمكنك أن تتصور الآن أننا لسنا في قاعة من قاعات المحاضرات المعتادة، فنحن نحضر فعاليات (تيد إكس أوبود)، وهي مؤتمرات مستقلة تتناول موضوعات التكنولوجيا والتعليم والتصميم والأفكار المبتكرة. وهذا هو المؤتمر الخامس من نوعه في جزيرة بالي، أو «سيليكون بالي» كما يسميها سكانها من هواة ومحترفي التكنولوجيا. ومن المعروف أن بالي، التي صنفها موقع تريب أدفايزر أفضل وجهة سياحية عالمية للعام 2017، تحتضن مشاهير عالم الموضة، وهواة التأمل واليوغا، ومن يختارونها لقضاء شهر العسل، وكذلك هواة المغامرة واستكشاف كل جديد.
ولكن العام الماضي شهد تواجد عشرات الآلاف من المنتمين إلى عالم التكنولوجيا والبرمجيات وعباقرة العالم الرقمي، ليشكلوا شريحة متميزة من بين خمسة ملايين زائر استقبلتهم الجزيرة في العام نفسه. وبفضل مناخها المعتدل على مدار العام، وطعامها بمذاقاته الشهية، وسكانها الودودين، ناهيك عن تدني تكاليف التشغيل والنفقات العامة، وتوافر خدمة الإنترنت فائق السرعة التي تضاهي مثيلاتها في الدول المتقدمة، فقد أضحت بالي من أهم الوجهات العالمية لدى المبدعين والمبتكرين الذين لا تتطلب أعمالهم الارتباط بمقر ثابت.
تجنب فقط أن تسميهم باسم «الرقميون الرّحل». حيث يقول ديفيد أبراهام، مؤسس شركة (آوتبوست) لتأجير مكاتب العمل: «هناك أمور أشد عمقاً من مجرد استخدام سكايب، أو إرسال الفاتورة بالبريد الإلكتروني، أو حتى ممارسة عملك بينما أنت مسافر دوماً. الناس هنا يبحثون عن نمط حياة جديد، يتسم بموازنة أفضل بين الحياة الشخصية والمهنية، وإضفاء معانٍ أشمل على مسيرتهم المهنية».
تشغل (أوتبوست) مكان عيادة سابقة تطل على تلال من أشجار التيك والماهوجني الخصبة كما تطل على نهر متدفق يبعد دقائق قليلة عن جنوب أوبود. وبفضل برنامج إدارة المشروعات الحديث، يستطيع ضيوف المكان العمل مع زملائهم على بعد آلاف الأميال والاستمتاع في الوقت نفسه بالعيش في جنة من الطبيعة. فلا عجب أن المشاريع في جزيرة بالي مستلهمة من المناظر الطبيعية الموجودة على تلك الأرض الخصبة ويحركها ما هو أكثر من مجرد تحقيق المكاسب المالية. ولتيسير الهروب من توتر وضغوط الحياة المهنية العصرية، توفر (أوتبوست) ما يسمى «حزمة الهبوط الآمن». بالإضافة إلى استقبالك في المطار وتسليمك شريحة هاتف محلية ومفاتيح دراجتك البخارية الخاصة، فإنك تسكن في واحدة من فلتين فاخرتين تضم غرفاً لها حمامات خارجية فسيحة تطل على حمام سباحة عملاق وجاكوزي. توفر (أوتبوست) اتصالاً سريعاً بالإنترنت، ومناظر طبيعية رائعة، علاوة على نمط حياة مختلف. وتسوق الشركة نفسها كمساحة عمل كانت جوجل لتنشئها لو أنها اتخذت من بالي مركزاً لها. كذلك تنظم أوتبوست برنامجاً حافلاً بالدروس والفعاليات بموضوعات تتراوح ما بين الموضة وريادة الأعمال.
«تأتي إلى بالي وفي عقلك فكرة محددة، وبطريقة ما يلهمك المكان فكرة أخرى أفضل»، هكذا يقول بارون والتون المصور الأسترالي الذي جاء مع زوجته إيزي، التي تعمل طاهية، في إجازة مدتها ستة أشهر في بالي مع أولادهما الأربعة. وجد الثنائي المحب للطعام ضالتهما في المطبخ المحلي الحار، والتحقا مع (أوتبوست) في دورة تدريبية مدتها شهر لحضانة الشركات الناشئة، حيث خطرت لهما فكرة إطلاق «إيت وورثي أوبود»، وهو تطبيق للهواتف الذكية يسمح بتحديد مواقع المطاعم المنزلية الصغيرة حول المدينة.
من جهته يقول ستيف مونرو، المؤسس الشريك لمساحة عمل هوبود المشتركةً: «يبدو أن بالي تجتذب هؤلاء الذين يكونون عادة في منتصف الطريق سواء كانوا في الثلاثين أو الخمسين من أعمارهم، هؤلاء الذين اكتسبوا بعضاً من الخبرة وحققوا نجاحاً، لكنهم قرروا بأن ذلك ليس ما حلموا به على وجه التحديد». يقع المكان على بعد خطوات من غابة القرود، أحد أكبر مناطق الجذب السياحي في الجزيرة.
يقول مونرو: «الكثير من الأشخاص الذين يأتون هنا يخبروننا بأن أصدقاءهم وآباءهم ظنوا بأنهم مجانين لانتقالهم للعيش في بالي، ثم يصلون ليجدوا الكثير من أصحاب العقول المتشابهة، فيدركون أنهم ليسوا وحدهم». انتقل مونرو، المدير السابق لبرنامج الأمم المتحدة لنزع الألغام في كومبوديا، إلى بالي مع زوجته وطفليه عام 2009. وما دفعه لاختيار بالي هي تلك المدرسة الخضراء، حيث يتعلم الأطفال من سن الثالثة وحتى الثامنة عشرة وفقاً لبرنامج يقوم على المشروعات عوضاً عن الحفظ. ويقدر مونرو وفقاً لإحصائية قام بها على ثلاثة آلاف عضو في هوبود، من أكثر من 70 دولة، أنه بدون الحاجة إلى السفر يومياً إلى العمل ومع رخص تكاليف المعيشة نسبياً، تستطيع أن توفر ما يصل إلى عشرين ساعة كل أسبوع لتعيشها على راحتك هنا.
من جانبه، يقول نيك مارتن، المؤسس الشريك والمدير التنفيذي لمنصة النشر الرقمي ماجلوفت:
«بالمقارنة بأوروبا والولايات المتحدة، فأموالك تدوم هنا لفترة أطول. لقد استطعنا أن نجلب فريقاً من ستة أشخاص ونبني نموذجاً مبدئياً ونصل إلى زبائن محتملين ونجمع ردود أفعال ونحسن من منتجنا باستخدام أموال كانت بالكاد ستكفي لاستئجار مكان لمدة سنة في كوبنهاجن».
تتخذ ماجلوفت من (ليفيت) مقراً لها، وهي حاضنة لستة شركات وثلاثين مطوراً للبرامج، ومنها خرج برنامج البريد الإلكتروني (ميل بيرد) الحائز على الجوائز، وكذلك فيلوندو أحد مواقع حجز الفلل الفاخرة في بالي.
من الأمثلة الأخرى الناجحة، هناك «رووم»، وهي أول مقدم لخدمات المعيشة المشتركة على مستوى العالم، حيث تقدم خدماتها حول العالم لمن يعملون بشكل حر ويتنقلون من دولة إلى أخرى بعقود قصيرة الأجل. فيمكنك مقابل ألفي دولار فقط أن تحصل على غرفة لمدة شهر كامل، إضافةً إلى مساحة عمل في لندن وميامي وطوكيو وبالي وقريباً في سان فرانسيسكو. «رووم بالي» عبارة عن فندق صغيرة يضم 24 غرفة متمركزة حول المسبح، وهناك مساحة للعمل موجودة على السطح المزين بأشجار الأوركيد والكركديه والمطل على معابد أوبود.
إن المعيشة المشتركة، بحسب «رووم»، طريقة جديدة لوصف نمط حياة قديم جداً؛ تقاسم النفقات والمساحات الرئيسية مثل المطابخ والغسيل والمرافق مثل الغاز والكهرباء لتحسين نوعية الحياة. وقد كان من بين النزلاء متداول في الأوراق المالية والأسهم، ومطورو برمجيات وكُتَّاب، ومستشارة العلامات التجارية شانون بندر، والتي تعود أصولها إلى ولاية أوريغون.
سبق لبندر قضاء بعض الوقت في مقرات عمل في ميامي ونيويورك. كما أخبرتنا بندر أنها تقضي الآن شهراً في بالي لتقديم خدماتها الاستشارية لشركة منتجات عضوية للعناية بالبشرة وإجراء بعض الأبحاث حول مصانع الأقمشة لشركة أزياء شهيرة في لوس أنجلوس.
كل ذلك يدفعنا إلى التساؤل: إذا كنت تنفق ألفي دولار في الشهر مقابل خدمات «رووم»، فإن هذا يعد سعراً معقولاً في نيويورك وطوكيو وسان فرانسيسكو، حيث تبلغ قيمة الإيجار في المتوسط حوالي ضعف ذلك المبلغ. لكن لماذا عليك إنفاق مثل هذا المبلغ في بالي، بينما يمكنك أن تستأجر فيلا بمسبح خاص مقابل حوالي نصف قيمة إيجار «رووم». تجيب بندر: «إن الأمر مغرٍ بالفعل، وقد أوشكنا أن نُقدِم عليه. لكني أردت عيش التجربة التي تقدمها رووم؛ حيث يتبنى مجتمع رواد الأعمال فكراً أقل توجهاً نحو قضاء العطلات. ففي رأيي، إن وجودك في فيلا أو في فندق سوف يقلل من حافزك للعمل. ولكن هنا، نستيقظ في الصباح ونتجه إلى أعلى حيث المساحة المخصصة للعمل، ويساعدنا هذا على البقاء على الطريق الصحيح لإنجاز المهام».
هناك بالفعل شيء مميز في الجلوس على السطح واستنشاق النسيم العليل الذي يهب محملاً بعبق الروائح الجميلة من المعابد المجاورة، فهذا يشجع كثيراً على العمل.. وما إن ننتهي من العمل، يمكنك أن تقضي أوقات الظهيرة في ركوب القوارب في مياه نهر أيونغ والاستمتاع بأمواج البحر في أولواتو. وقد قضينا معظم الأمسيات في تبادل الحكايات عن الحياة الجديدة في البرية، والتي أضاءها بريق اليراعات في عمق الليل. وإذا قارنا كل ذلك مع البدائل الأخرى في دول أخرى كالعمل من المنزل أو المقهى، ومحاولة الهروب من زحام الشوارع، فأعتقد أن هؤلاء الرواد قد قاموا بالاختيار الصحيح.